النور الخاتم
كان الأنبياء يبشرون بآخر الرسل ، ويخبرون أنه سيجىء فى آخر الزمان نبى لا نبى بعده، وتحققت البشرى الكريمة، وجاء محمد ليقول: " مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فى زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين" [متفق عليه].
فالإسلام صرح عظيم ساهم فى بنائه كل نبى من أنبياء الله.
وكان فضل الله على نبيه عظيمًا، فقد آتاه من أنعمه ما لا يحصى، ولأجل ذلك أسرعت إليه الأفئدة السوية من سادات الأقوام وضعفائهم، وجاء إليه الرجال الأطهار من الأنصار أهل المدينة يطلبونه؛ ليخرج إليهم، ويبايعونه على أن يخوضوا معه الصعاب لترتفع راية الإسلام.
ووقف رسول الله وهو يحمل أشرف رسالات السماء إلى الأرض، ويصعد بأصحابه إلى مراقى الكمال، حتى كان منهم علماء الدنيا وقادتها ورجالها، ولم يهدأ رسول الله لحظة منذ حمل الأمانة، وحتى اللحظات الأخيرة من عمره المبارك، لما ثقل به الوجع جعل يحاول الخروج للصلاة مع أصحابه، لكنه كان لايستطيع، فيطلب ممن حوله أن يصبوا عليه ماء فيفعلون، فيفيق، فيكون أول سؤاله: "أصلى الناس؟" فيقال له: لا، هـم ينتظرونك يا رسول الله. فيطلب أن يصبوا عليه الماء، ليفيق من مرضه، ويحاول مرة بعد مرة فلا يستطيع، كل ذلك والناس منتظرون فى المسجد لا يستطيعون مفارقته قبل أن يروا حبيبهم وزعيمهم وقائدهم، لكنه لا يخرج، فقد اشتد به الوجع، وأمر أبا بكر أن يصلى بالناس.
وفى الأيام التالية، وجد فى نفسه خفَّة، فخرج لأصحابه فى صلاة الظهر متوكئًا على ابنىْ عمه الفضل بن العباس وعلى بن أبى طالب، وجلس على أول درجة من درجات المنبر، وقال: "إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله" [أحمد]. فبكى أبو بكر الصديق ووقف الصحابة يتعجبون لبكائه.
لكن أبا بكر كان قد فهم ما لم يفهمه الصحابة؛ لقد فهم أن العبد المخير هو رسول الله وأن اختيار رسول الله لما عند الله يعنى قرب الفراق. وصعدت روح رسول الله إلى الرفيق الأعلى فى هذا اليوم، فتزلزلت نفوس الصحابة حتى وقف عمر بن الخطاب يهدد من يذيع الخبر قائلا: زعموا أن محمدًا مات، وإنه والله ما مات، لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، والله ليرجعن رسول الله حقّا.
وجاء أبو بكر الصديق فدخل على رسول الله، وتحقق من الخبر، فقَبَّل جبين رسول الله قائلا: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، طبت حيًا وميتًا وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من العالمين.
ثم خرج إلى أصحابه يعيد صوابهم قائلا: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت. ثم تلا عليهم قول الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين )[آل عمران: 144] [والحديث رواه أحمد].
وهنا رجع الصحابة إلى رشدهم، فقد فهموا أن الله قد اختار حبيبه إلى جواره، وأن الأمانة لا زالت فى أعناقهم، وأنهم كى يلتقوا به ثانية لابد أن يكونوا على طريقه حتى يكون الملتقى فى الجنة إن شاء الله.
تُرى كيف سيكون تاريخهم وتاريخ من بعدهم؟ هذا هو حديث الكتاب.
دولة الخلفاء الراشدين
دولة الخلفاء الراشدين
لقد كان المسلمون أثناء حياة النبى فى أمن وسكينة، فالرسول يدبر أمورهم، ويقود جموعهم، ويرشدهم، ويهديهم، ويفتيهم فيما يعنيهم.
فلما مات النبى شعر المسلمون أنه لابد لهم من راعٍ يخلف الرسول فى تدبير أمورهم، ويقود مسيرتهم، ويحمل راية الإسلام عالية خفاقة، فمن يتولى أمرهم بعد النبى ؟! إن الرسول لم يعيّن أحدًا من بعده ؛ بل ترك الأمر شورى بينهم، يختارون خليفتهم بأنفسهم لكن من يكون ذلك الخليفة ؟
سقيفة بنى ساعدة:
لابد من اجتماع للتشاور، والاتفاق على رأى، فليلتق الجميع فى سقيفة بنى ساعدة، وليتفقوا على من يختارونه، لكن الأنصار قد سبقوا إلى السقيفة، واختاروا واحدًا منهم هو سعد بن عبادة.
فلما علم عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق وأبو عبيدة بن الجراح، أسرعوا إلى السقيفة، ووقف أبو بكر فيهم خطيبًا، فتحدث عن فضل المهاجرين وفضل الأنصار ثم ذكر أن الخليفة يجب أن يكون قرشيّا، إذ إن الناس لا يطيعون إلا هذا الحىّ من العرب، ثم اختار للناس أن يبايعوا إما عمر وإما أبا عبيدة، فرفض عمر وأبو عبيدة ذلك الأمر لعلمهما بفضل أبى بكر وسابقته، وهنا وقف بشير بن سعد وهو أحد زعماء الأنصار، وطلب من قومه ألا ينازعوا المهاجرين فى الخلافة !
وهذا موقف نبيل؛ إنه حريص على وحدة الصف، وعلى الأخوة الإسلامية، لا يفكر إلا فى المصلحة العامة، وهنا أعلن عمر ابن الخطاب ومعه أبو عبيدة بن الجراح مبايعتهما لأبى بكر الصديق.
وبايع كل من كان فى السقيفة أبا بكر، ثم شهد مسجد الرسول ( بالمدينة بيعة عامة على نطاق أوسع ضمت كل الذين شهدوا بيعة السقيفة والذين لم يشهدوها، وأصبح أبو بكر خليفة المسلمين، وكان ذلك سنة 11هـ/ 633م. لقد كان أبو بكر جديرًا بذلك، وكان المسلمون جميعًا على قناعة بذلك، فقد رضيـه رسول الله ( لدينهم إمامًا فصلى خلفه، وأمر الناس بالصلاة خلفه، وهو مريض، فكيف لا يرضونه لدنياهم؟!